هل رأيت عاشقا قدم كبده لمحبوبه !
20/08/2011
جريدة الصباح العراقيه
مهضومة هي الأغنية التي أسمعها هذه الأيام بصوت اللبناني ملحم زين، مهضومة ورائعة وتمسك بخناقك فورا : كبد كبد كبدبد ..فدوه أروح لهالخد !
محمد غازي الاخرس
مهضومة هي الأغنية التي أسمعها هذه الأيام بصوت اللبناني ملحم زين، مهضومة ورائعة وتمسك بخناقك فورا : كبد كبد كبدبد ..فدوه أروح لهالخد !
نعم ، تخيلوا ذلك ؛ مطرب لبناني يغني بلهجتنا ويتغزل مثلنا : كبد كبد كبدبد ..غيرك فلا احب أحد.
ما أثارني في الأغنية ليس لحنها السريع ولا ايقاعاتها العراقية الراقصة إنما مفردة : كبدبد التي هي تحوير لمفردة "كبد" ، والأخيرة ترد في لساننا الشعبي كاستعارة لمن نعشق شأنها شأن الروح والقلب و"الجلوه" والعين وباقي أعضاء الجسد.
وأنا أسمع الأغنية ابتسمت وتذكرت الممثل عماد بدن في مسرحية "المحطة" حيث يتجه بين لحظة وأخرى لزميله عبد الجبار كاظم ويقول : كبدي أبو دريد..!
الحال أن هذه الاستعارات تكاد تكون حكرا على العراقيين فنحن على استعداد لسفح دمائنا وفقأ عيوننا وبتر أيدينا وأرجلنا لمن نحب ولمن لا نحب ، وهذا يدل على أننا نقول ما لا نفعل ونكذب عن طريق اللغة يوميا . نقول لمحدثنا ـ هاك عيني وجيب عيني وشبيك عيني، لكننا نتفاصل معه على الفلس بل نحاول التغلب عليه بطريقة وأخرى .
وبمناسبة "عيني" ، هذه التي تغنى بها سعدون جابر، أتذكر أن جريدة عراقية أجرت لقاء في الثمانينيات مع مذيعة مصرية زارت بغداد. سألوها حينها عن أغرب ما رأت فكان جوابها : استغربت من شيء واحد ، فقد لاحظت أن الجميع مستعدون لإعطائي عيونهم، فهم بين عبارة وأخرى ينادون بكلمة ـ عيني..عيني ..!
دهشة تلك المصرية من تردادنا : عيني لها ما يبررها فهي لم تعتد، في لهجتها ، على هذه الاستعارة ، ولو كانت اندمجت معنا أكثر لصعقت ربما فنحن مستعدون ليس لجعل أحدى العينين فراشا للضيف والآخرى غطاء فقط، بل نحن نوشك أن نبتر أعضاءنا عضوا بعد آخر لارضاء من نهوى؛ تذكروا هذه العبارات : يا بعد كلبي، يا بعد جلوتي ، يا بعد رويحتي ، يا بعد شيبي، يا بعد بيتي. ليس هذا حسب فأنت إذ تنتقل إلى طبقة "الفدوه" ستجد العجب العجاب ؛ أروح لك فدوه حاجيني، فدوه لهالطول اسمعني، فدوه لهالشارب خلص لي المعاملة!
هذه الصيغ ربما تعود، برأيي، لمنظومة ثقافية كاملة تقوم على فكرة الفداء التي عرفها العراقيون القدامى ، وملخصها أنهم كانوا إذا حل وقت الحصاد قدموا للآلهة التي يعتقدون أنها مسؤولة عن مقادير العالم قرابين لإرضائها . مرة يكون الفداء عجلا ومرة ديكا، مرة إنسانا ومرة بيضة.
بعد ذلك صاغت الفكرة نفسها هكذا ؛ كي تتوقى شرور الطبيعة عليك دائما تقديم حصة من المحصول لها وهو ما نسميه "فجران الدم". وهذا المفهوم تطور لاحقا ليشمل مجالات أخرى منها علاقتنا في ما بيننا، إذ غالبا ما يكون ثمة قرابين بشرية تذبح لتستمر مسيرة الإنسان نحو الكمال .
لا أريد الذهاب بعيدا لكن علاقتنا مع الآخر القائمة على فكرة الفداء لا تبعد عن هذه الأصول ، فأنت على استعداد في كل لحظة لتسفح دمك فداء لمن تحب ولمن لا تحب. وإذ أقول انك مستعد لذلك فأنا أعني الفداء المجازي وليس الفعلي، أعني الفداء في اللغة وليس خارجها ؛ أنت تقول لمحدثك :عيني ، لكنك لا تتوقع منه أن يطالبك بقلعها فعليا. هو يعرف أنك تكذب وأنت تعرف أنه يعرف ذلك ، والخلاصة أنكما متفقان ضمنيان على اللعبة اللغوية : افتهم عيني ..
مع العشاق لا يختلف الأمر كثيرا فهم أيضا يحاولون عن طريق اللغة اقناع بعضهم الآخر بالعشق والهيام لكن ما أن يصبح الأمر جادا حتى يمسك العاشق طرف دشداشته ويهرب تاركا حبيبته بيد أخوتها وأقدارهم .
نعم، سيهرب تاركا معشوقته ، ولكنه لن يتوقف عن عادته اللغوية ، ففي أقرب مناسبة سيقول للحبيبة الجديدة : كبد كبد كبدبد..فدوه أروح لهالخد !